ترامب والمأزق الأميركي- هل ينجح في "إنقاذ" أمريكا؟

يرى العديد من المحافظين الأمريكيين في الرئيس ترامب "بطلاً منقذاً" وسط تدهور الأوضاع في الولايات المتحدة. وهم يعتبرون قراراته وإجراءاته ضرورية لتحقيق شعاره الطموح: "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". هذه الإجراءات، في نظرهم، هي خطوات منهجية ومدروسة، وليست مجرد نزوات عشوائية أو استفزازات كما يدعي خصومه.
إن اتخاذ ما يقرب من 200 قرار رئاسي وأمر تنفيذي في الأيام الأولى من ولايته الرئاسية الثانية، يمثل بالنسبة لهم دليلاً قاطعاً على قدرته الفائقة على اتخاذ القرارات الحاسمة، ومواجهة التحديات الجسام، ورؤيته الثاقبة، وحاجة الولايات المتحدة الماسة إلى شخصية قيادية مثله، قادرة على اتخاذ القرارات الصعبة وتحمل تبعاتها. فهم يعتقدون أن التدهور الداخلي قد بلغ مستويات خطيرة، بحيث أصبح علاجه بالأساليب التقليدية المعتادة ضرباً من المستحيل.
تمثل "القومية الشعبوية" الإطار النظري للعلاقات الدولية الذي يعتمده ترامب لمواجهة تحدي التراجع الأمريكي على الصعيد العالمي.
يبقى السؤال الجوهري: هل سيتمكن ترامب من مواجهة التحديات الجاثمة ولعب دور "المنقذ" الذي يصبو إليه أنصاره؟ أم أنه سيزيد من وتيرة تدهور الوضع الأمريكي داخلياً وخارجياً؟ وهل طبيعة تفكيره وعقليته تؤهله لتحسين الأوضاع أم لتفجيرها؟
المأزق الأميركي
تعاني الولايات المتحدة من سلسلة من المشكلات المتفاقمة، من بينها: الاستقطاب السياسي الحاد، والتجاذب العنيف بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف، واتساع الهوة الاقتصادية والمالية بين الأغنياء والفقراء، وتصاعد حجم الديون الحكومية إلى مستويات تنذر بالخطر، وتفاقم المشاكل المتعلقة بالهجرة واللجوء، وازدياد مظاهر العنصرية والتوترات الاجتماعية، وعجز الطبقة الوسطى المتزايد عن توفير الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم وشراء المساكن، وتنامي العنف المسلح والجريمة.
في هذا المقال، سنركز على بعض الأمثلة البارزة. على سبيل المثال، يشعر "الأمريكيون البيض"، ولا سيما المسيحيون البروتستانت، الذين يعتبرون أنفسهم الركيزة الأساسية للمجتمع الأمريكي والعمود الفقري للنهضة الأمريكية، بأن الهوية الأمريكية أصبحت في خطر محدق.
فقد كانت نسبة المسيحيين في الولايات المتحدة عام 1970 تشكل 85% من إجمالي السكان، وكان المسيحيون البيض يشكلون 80% من المجتمع الأمريكي. أما اليوم، فقد انخفضت نسبة من يعرفون أنفسهم كمسيحيين إلى 62-65% فقط، ومن المتوقع أن تنخفض هذه النسبة إلى أقل من 50% بحلول عام 2050.
أما المسيحيون "البيض" (من غير ذوي الأصول اللاتينية)، فقد انخفضت نسبتهم إلى حوالي 40% فقط في عام 2025، (30% منهم بروتستانت)، بعد أن كان البروتستانت يشكلون أكثر من 60% من السكان في سبعينيات القرن العشرين. في المقابل، حافظ الكاثوليك على نسبتهم عند حوالي 23% (بسبب الهجرة من أصول لاتينية). بينما بلغت نسبة من لا ينتمون إلى أي دين حوالي 30%.
من ناحية التركيبة العرقية، كان الأمريكيون البيض (من غير ذوي الأصول اللاتينية) يشكلون حوالي 85% من المجتمع الأمريكي في عام 1970، ولكن هذه النسبة انخفضت إلى حوالي 57% فقط في عام 2025.
في المقابل، ارتفعت نسبة ذوي الأصول اللاتينية من حوالي 5% إلى 20% (حوالي 62 مليون نسمة)، ونسبة السود من 11% إلى 13% (41 مليون نسمة)، ونسبة الآسيويين من أقل من 1% إلى 7% (19 مليون نسمة). وهذا يعني أن "البيض" قد يفقدون أغلبيتهم في غضون العقدين القادمين.
لذا، ليس من المستغرب أن تصبح معركة "الهوية" وضمان استمرار سيطرة "الإنسان الأبيض" في الولايات المتحدة، معركة مركزية ومصيرية بالنسبة لترامب وأنصاره، الذين يعبرون عن تطلعات ومخاوف هذه الفئة، وخاصة في أوساط البروتستانت البيض.
من ناحية أخرى، يشكل الهاجس الاقتصادي تحدياً كبيراً لصناع القرار في الولايات المتحدة. فقد بلغ إجمالي الدين العام 36 تريليوناً و220 مليار دولار، وهو ما يعادل حوالي 125% من الناتج القومي الأمريكي. وتبلغ خدمة الدين حوالي 892 مليار دولار في عام 2025، ومن المتوقع أن يرتفع هذا المبلغ إلى 1.7 تريليون دولار بحلول عام 2034.
يؤثر هذا الدين بشكل كبير على قدرة الحكومة على تمويل برامجها وخدمة المواطنين الأمريكيين، حتى في المجالات الحيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية وبرامج الدفاع.
في الوقت نفسه، تتسع الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء بشكل ملحوظ. فـ 1% فقط من السكان يمتلكون حوالي ثلث إجمالي الثروة في الولايات المتحدة، و 10% من الأمريكيين يمتلكون حوالي 70% من إجمالي الثروة، بينما يمتلك النصف الأفقر من السكان أقل من 3% من إجمالي الثروة. وهناك 37 مليون أمريكي يعيشون تحت خط الفقر، مما يهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
تم تسجيل 21.570 جريمة قتل في الولايات المتحدة في عام 2020، وهو من أعلى المعدلات على مستوى العالم. وتتصدر السجون الأمريكية قائمة السجون في العالم من حيث عدد السجناء، حيث يوجد فيها حوالي مليوني سجين، يمثلون 25% من إجمالي عدد السجناء في العالم!
يبلغ عدد السجناء من أصول أفريقية أربعة أضعاف عدد السجناء الأمريكيين البيض. وهذا يعطي مؤشرات مقلقة حول التفاوت الطبقي والاجتماعي، وشعور السود بالظلم، ويدفع أعداداً من البيض إلى التعامل مع العرقيات والقوميات الأخرى باعتبارهم عبئاً ومصدراً للمشاكل.
من ناحية أخرى، يمثل الصعود الصيني مصدراً للقلق المتزايد لصناع القرار الأمريكيين على الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. فمنذ عام 2009، بدأت الصادرات الصينية العالمية في تجاوز الصادرات الأمريكية، حتى وصلت في عام 2022 إلى ضعف الصادرات الأمريكية تقريباً (3.6 تريليون دولار مقابل 1.83 تريليون دولار). ومن المتوقع أن يتساوى الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للصين مع نظيره الأمريكي في عام 2034. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الصيني قد تجاوز نظيره الأمريكي من ناحية القدرة الشرائية منذ عقد من الزمن، وهو يزيد عنه الآن بأكثر من 6 تريليونات دولار.
ضاعفت الصين ميزانيتها العسكرية بنحو 800% في السنوات العشرين الماضية، مقارنة بزيادة بنحو 65% للولايات المتحدة في الفترة نفسها.
أصبحت الصواريخ الصينية النووية الفرط صوتية تشكل تهديداً حقيقياً للولايات المتحدة. وتجاوزت الصين الولايات المتحدة في عدد براءات الاختراع، حيث سجلت حوالي 921 ألف براءة اختراع في عام 2023 مقابل حوالي 315 ألف براءة اختراع للولايات المتحدة.
كما تمثل مجموعة البريكس (الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا) وتصاعد وزنها الدولي مصدر قلق إضافي للولايات المتحدة، يضاف إلى همومها الأخرى، ويساهم في تراجع مكانتها العالمية.
سياسات ترامب
يرى ترامب وفريقه أنه من أجل استعادة عظمة الولايات المتحدة وتجاوز حالة التدهور، لا بد من:
1. إنهاء حالة الترهل في المنظومة الإدارية والتنفيذية الأمريكية، وخفض التكاليف، وتسريع عملية اتخاذ القرارات.
2. حماية الأغلبية البيضاء، وخاصة البروتستانتية، واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لمواجهة ظاهرة الهجرة واللجوء من الأقليات الأخرى إلى الولايات المتحدة. مع السعي لتحقيق تجانس ثقافي للمجتمع الأمريكي.
3. حماية الأسرة و"القيم المحافظة" في المجتمع، ومحاربة الإجهاض، والتضييق على مجتمعات الشذوذ الجنسي والمثلية.
4. وضع القوانين بما يتناسب مع مصالح الأغلبية، وليس الأقليات. وعلى الأجانب (أي الأقليات الوافدة) أن يندمجوا من خلال قبول الاستيعاب في ثقافة "المسيحي الأبيض"، لا أن يفرضوا التعددية الثقافية.
5. تبني سياسة خارجية "قومية شعبوية"، تعطي الأولوية للسيادة الأمريكية، وتطبق سياسات حماية اقتصادية، وتشكك في قيمة المنظمات الدولية، وتعادي العولمة والتجارة الحرة، وترفض الالتزامات العسكرية الكبيرة، وتركز على الأولويات الوطنية الداخلية وعلى المصالح الخاصة في بيئة تنافسية شرسة.
وهي سياسة تجمع في بعض جوانبها سلوك "المدرسة الواقعية" و"المدرسة الانعزالية" في السياسة الخارجية الأمريكية.
6. يرى ترامب وفريقه أن السلطة العالمية يجب أن تكون للأقوياء، وهم الذين يتنافسون ويتفاوضون لصناعة المستقبل، وعلى الضعفاء أن يتكيفوا ضمن المساحة المتاحة لهم، مع تجاهل القيم والأخلاق والقانون الدولي.
وهو في ذلك يطبق "الداروينية الاجتماعية" القائمة على فكرة أن البقاء للأصلح والأقوى، وبناء على ذلك يرى لنفسه حق السيطرة على مناطق يعتبرها استراتيجية لمصالح أمريكا مثل كندا، وغرينلاند، وقناة بنما. ولا يرى حرجاً في تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، حتى ولو على حساب الأمن القومي لحلفائه في مصر والأردن.
7. يسعى ترامب وفريقه لتخفيف أي أعباء دولية تتحملها أمريكا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأخلاقياً، في مقابل خدمة مصالحها العليا وبرامج استعادة تماسكها ومكانتها.
كما تسعى لتدفيع حلفائها وأصدقائها فواتير وأثمان خدماتها، بشكل مفرط في "الجشع الرأسمالي" والابتزاز السياسي والمالي، وبطريقة متسرعة، مع استخدام أدوات الضغط المتاحة لتحقيق ذلك، وتوفير أكبر قدر من المال بأقل قدر من التكاليف. ويبرز نموذج أوكرانيا بشكل صارخ في هذا المجال.
هل تنجح سياسات ترامب؟
يواجه ترامب تحديات جمة لتحقيق أهدافه، ولا تبدو فرصه واعدة في ضوء المعطيات الحالية. لكنه ومؤيدوه يرون أن الأمر يستحق المحاولة و"المقامرة"، بدلاً من الاستسلام لمسار التدهور الحتمي الذي يلوح في الأفق.
يكمن المأزق الأمريكي في أن رغبات ترامب الجامحة لا تتناسب مع القدرات الفعلية على التنفيذ، وتبقى إلى حد كبير في إطار أسلوب رجل الأعمال الذي يسعى لتحقيق المكاسب السريعة بأي وسيلة ممكنة.
قد تكون سياسات ترامب قد حققت بعض النجاحات الآنية، إلا أنها قد تتسبب في خسائر استراتيجية فادحة على المدى المتوسط والبعيد. وتتجسد مظاهر تأزيم الوضع الأمريكي المحتملة فيما يلي:
1. إن الطريقة التي يود ترامب "إدارة العالم" بها تقضي فعلياً على النظام العالمي ومؤسساته الدولية القائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتسقط أي مرجعيات قانونية دولية أو أخلاقية في العلاقات الدولية.
قد يتيح ذلك بعض المساحات للمناورة لترامب، لكن العديد من القوى الصاعدة والطامحة، أو المقيدة بالنظام العالمي الحالي، ستجد هي الأخرى الفرصة للتنافس والسعي لخدمة مصالحها وفرض إرادتها.
وعندها لن تتمكن الولايات المتحدة من الاحتجاج بأي منطق عقلي أو قيمي أو مؤسسي يمكن العودة إليه، مما سيفتح عليها "صندوق باندورا" للمخاطر ويضعف قدرتها على لعب أي دور محوري في أي منظومة حكم عالمية.
2. تدفع سياسات ترامب حلفاء الولايات وأصدقاءها والعاملين تحت نفوذها إلى الاعتماد على أنفسهم وتقليل حاجتهم للولايات المتحدة أو الاستغناء عنها، وبناء علاقات دولية أقوى مع قوى صاعدة مثل الصين، والبحث عن مصادر جديدة للسلاح. وهو ما سيضعف النفوذ العسكري والاقتصادي والسياسي الأمريكي على المدى المتوسط والبعيد، وبالتالي إضعاف قدرة الولايات المتحدة على الابتزاز المالي والسياسي، وتراجع تأثيرها في المجتمع الدولي.
3. تفتح سياسات ترامب -سواء أحببنا ذلك أم كرهناه- فرصاً أفضل للصين والقوى الدولية الصاعدة لملء الفراغ وتحسين فرصها التنافسية الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
4. تراجع مكانة الولايات المتحدة كأكبر دولة جاذبة للاستثمارات في العالم، بسبب سياسات إدارة ترامب التي تقوض الثقة في مصداقية الولايات المتحدة وتوفيرها بيئات استثمار حرة.
5. في مقابل إجراءات الحماية الأمريكية وفرض الضرائب والرسوم على الواردات، ستقوم الدول الأخرى بإجراءات حماية مماثلة، وترفع الضرائب على الصادرات الأمريكية، مما سيرفع تكلفتها ويفقدها مزاياها التنافسية. وستستعيد هذه الدول جزءاً كبيراً من خسائرها التي تسببت بها سياسة ترامب.
6. سيتزايد سعي العديد من الدول مثل دول البريكس وغيرها لتخفيف الاعتماد على الدولار الأمريكي في التبادل التجاري العالمي، وسيتزايد هذا التأثير إذا ما قررت دول أوروبية أو الدول النفطية ذلك، وهو ما سيضعف تأثير الدولار في الاقتصاد العالمي.
7. تساهم سياسات ترامب الداخلية في ضرب البنى المؤسسية الأمريكية وإضعافها، وتأجيج الرغبة لدى بعض الولايات في الانفصال عن الدولة، ولو على المدى البعيد، مثل كاليفورنيا وتكساس.
8. ستتسبب سياسات ترامب في الحفاظ على هيمنة "البيض" وخاصة البروتستانت، وفرض نموذجه الاجتماعي الثقافي بطريقة متعسفة، في تصاعد النزاع الداخلي والإشكالات الاجتماعية والطبقية، وحالة الاحتقان لدى الأقليات العرقية والدينية.
وسيتضرر عدد من الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة كأرض للحرية والتعددية الثقافية، التي وفرت على مدى أكثر من مئتي عام بوتقة صهر للمهاجرين المندمجين، والذين يقدمون أفضل ما لديهم من إمكانات وإبداع في ضوء شعور حقيقي بالولاء والانتماء لوطنهم الجديد.
9. ترامب لا يرغب في التدخل العسكري ولا خوض الحروب، بل إن وضع الولايات المتحدة الحالي لا يعينها على التدخل العسكري الواسع المباشر.
فبالرغم من قدرة ترامب على الإضرار بكثير من الدول إذا ما اتخذ إجراءات عقابية، فإن قدرته على الاستمرار في ممارسة الضغوط تظل محدودة، إذا ما رغبت هذه الدول في الاستمرار في تحدي سياساته، إذ إنه لا يستطيع في الغالب تجاوز الإجراءات الاقتصادية. وستتمكن معظم الدول من تجاوز أزماتها على المدى المتوسط والبعيد.
وفي الخلاصة، فإن سياسة ترامب هي خسارة محققة على المدى المتوسط والبعيد. وهي ستسهم في تعميق المأزق الأمريكي وبمزيد من تدهور الولايات المتحدة ومكانتها العالمية، كما ستضعف تماسكها الداخلي. وإن الكثير من تهديدات ترامب مبنية على تقديرات مبالغ فيها للقوة، وعلى إيجاد أجواء ضاغطة مصطنعة في عملية "المقامرة" التي يقودها.
وفي الغالب، فإن الدول الوازنة في العالم ستسعى لامتصاص اندفاعة ترامب واستيعابها، وعدم مواجهته مباشرة، وستلعب معه "الشطرنج" لتحشره بعد ذلك في زاوية الخسائر ودفع الأثمان.